فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قول الله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}. الآية.
الجمهور على رفعها على أنّها خبر مبتدأ محذوف، هم صم بكم، ويجيء فيه الخلاف المَشْهُور في تعدُّد الخبر، فمن أجاز ذلك حمل الآية عليه من غير تأويل، ومن منع ذلك قال: هذه الأخبار: وإن تعدّدت لفظًا، فهي متحدة معنى؛ لأن المعنى: هم غير قائلين للحق بسبب عَمَهُمْ وصَمَمِهِمْ، فيكون من باب: هذا حُلْوٌ حَامِضٌ أي: مُزٌّ، وهذا أعسر أيسر أي: أضبط، وقول الشاعر: الطويل:
يَنَامُ بإِحْدَى مُقْلَتَيْهِ ويَتَّقِي ** بِأُخْرَى الأَعَادِي فَهُوَ يَقْظَانُ هَاجِعُ

أي: متحرّز.
أو يقدر لكل خبر مبتدأ تقديره: هم صُمّ بُكْمٌ، هم عُمْيٌ.
والمعنى: أنهم جامعون لهذه الأوصاف الثلاثة، ولولا ذلك لجاز أن تكون هذه الآية من باب ما تعدّد فيه الخبر لتعدّد المبتدأ، كقولك: الزيدون فقهاء شعراء كاتبون، فإنه يحتمل أن يكون المعنى أن بعضهم فقهاء، وبعضهم شعراء، وبعضهم كاتبون، وأنهم ليسوا جامعين لهذه الأوصاف الثلاثة، بل بعضهم اختصّ بالفقه، والبعض الآخر اختصّ بالشعر، والآخر بالكتابة.
وقرأ بعضهم {صمَّا بكمًا عميًا} بالنصب، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه حالٌ، وفيه وجهان:
أحدهما: هو حال من الضمير المنصوب في {تركهم}.
والثاني: من المرفوع في {لا يُبًصِرُون}.
الثاني: النَّصْب على الذَّم كقوله: {حَمَّالَةَ الحطب} [المسد: 4] وقول الآخر:
سَقَوْنِي الخَمْرَ ثُمَّ تَكَنَّفُونِي ** عُداةَ اللهِ مِنْ كَذِبٍ وزُورِ

أي: أذمُ عُداة الله.
الثالث: أن يكون منصوبًا بترك، أي: صمَّا بكمًا عميًا.
والصّمم: داء يمنع من السَّمَاع، وأصله من الصَّلابة، يقال: قناة صَمّاء: أي: صلبة.
وقيل: أصله من الانسداد، ومنه: صممت القَارُورَة أي: سددتها.
والبَكَمُ: داءٌ يمنع الكلام.
وقيل: هو عدم الفَهْمِ.
وقيل: الأبكم من وُلِدً أَخْرَسَ.
وقوله: {فهم لا يرجعون} جملة خبرية معطوفة على الجملة الخبرية قبلها.
وقيل: بل الأولى دعاء عليهم بالصَّمم، ولا حاجة إلى ذلك.
وقال أبو البقاء: وقيل: فهم لا يرجعون حال، وهو خطأ؛ لأن الفاء ترتب، والأحوال لا ترتيب فيها.
ورجع يكون قاصرًا ومتعديًا باعتبارين، وهذيل تقول: أرجعه غيره، فإذا كان بمعنى عاد كان لازمًا، وإذا كان بمعنى أعاد كان متعديًا، والآية الكريمة تحتمل التَّقديرين، فإن جعلناه متعديًا، فالمفعول محذوف، تقديره لا يرجعون جوابًا، مثل قوله: {إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 8]، وزعم بعضهم أنه يضمَّن معنى صار، فيرفع الاسم، وينصب الخبر، وجعل منه قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّارًا يَضْرِب بَعْضُكُم رِقابَ بَعْضٍ».
ومن منع جريانه مجرى صار جعل المنصوب حالًا. اهـ.

.تفسير الآية رقم (19):

قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)}.

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{أو} مثلهم في سماع القرآن الذي فيه المتشابه والوعيد والوعد {كصيب} أي أصحاب صيب أي مطر عظيم، وقال الحرالي: سحاب ممطر دارٍّ ثم اتبعه تحقيقًا لأن المراد الحقيقة قوله: {من السماء} وهو كما قال الحرالي ما علا فوق الرأس، يعني هذا أصلة والمراد هنا معروف، ومثل القرآن بهذا لمواترة نزوله وعلوه وإحيائه القلوب كما أن الصيب يحيي الأرض، ثم أخبر عن حاله بقوله: {فيه ظلمات} أي لكثافة السحاب واسوداده {ورعد} أي صوت مرعب يرعد عند سماعه {وبرق} أي نور مبهت للمعانه وسرعته قاله الحرالي، والظلمات مثل ما لم يفهموه، والرعد ما ينادى عليهم بالفضيحة والتهديد والبرق ما لم يلوح لهم معناه ويداخلهم رأي في استحسانه.
ولما تم مثل القرآن استأنف الخبر عن حال الممثل لهم والممثل بهم حقيقة ومجازًا فقال: {يجعلون أصابعهم} أي بعضها ولو قدروا لحشوا الكل لشدة خوفهم {في آذانهم من الصواعق} أي من أجل قوتها، لأن هولها يكاد أن يصم، وقال الحرالي: جمع صاعقة وهو الصوت الذي يميت سامعه أو يكاد، ثم علل هذا بقوله: {حذر الموت والله} أي والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا {محيط بالكافرين} فلا يغنيهم من قدره حذر، وأظهر موضع الإضمار لإعراضهم عن القرآن وسترهم لأنواره. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السماء} قال الطبري: {أو} بمعنى الواو؛ وقاله الفرّاء.
وأنشد:
وقد زَعَمتْ ليْلَى بأنِّيَ فاجرٌ ** لنفسي تُقَاها أو عليها فُجورها

وقال آخر:
نَال الخلافةَ أو كانت له قَدَرًا ** كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ

أي وكانت.
وقيل: {أو} للتخيير أي مثّلوهم بهذا أو بهذا، لا على الاقتصار على أحد الأمرين، والمعنى أو كأصحاب صَيِّب.
والصَّيِّبُ: المطر.
واشتقاقه من صَابَ يَصُوبُ إذا نزل؛ قال عَلْقَمة:
فلا تَعْدِلي بَيني وبين مُغَمَّرٍ ** سَقَتكِ رَوايا المُزْنِ حيث تَصُوبُ

وأصله: صَيْوب، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت؛ كما فعلوا في ميّت وسيّد وهيّن وليّن.
وقال بعض الكوفيين: أصله صَوِيب على مثال فعِيل.
قال النحاس: لو كان كما قالوا لما جاز إدغامه، كما لا يجوز إدغام طويل.
وجمع صيب صيايب.
والتقدير في العربية: مَثَلهم كَمَثل الذي استوقد نارًا أو كمثل صيب.
قوله تعالى: {مِّنَ السماء} السماء تذكّر وتؤنث، وتجمع على أسميةٍ وسموات وسُمِيّ، على فُعُول؛ قال العجاج:
تَلُفُّه الرياحُ والسُّمِيُّ

والسماء: كل ما علاك فأظلّك؛ ومنه قيل لسقف البيت: سماء.
والسماء: المطر؛ سُمّيَ به لنزوله من السماء.
قال حسان بن ثابت:
ديارٌ من بني الحَسْحاسِ قَفْرٌ ** تُعَفِّيها الروامِسُ والسماء

وقال آخر:
إذا سَقَط السماءُ بأرض قومٍ ** رَعَيناه وإن كانوا غِضابَا

ويسمّى الطين والكلا أيضًا سماء؛ يقال: ما زِلْنا نطأ السماء حتى أتيناكم.
يريدون الكلأ والطين.
ويقال لظهر الفرس أيضًا سماء لعلوّه؛ قال:
وأحمرُ كالدّيباج أمّا سماؤه ** فَرَيّا وأمّا أرضُه فمُحُولُ

والسماء: ما علا.
والأرض: ما سفل؛ على ما تقدّم.
قوله تعالى: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ} ابتداء وخبر.
{وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} معطوف عليه.
وقال: ظلمات بالجمع إشارة إلى ظُلْمة الليل وظُلْمة الدَّجْن، وهو الغيم؛ ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت.
وقد مضى ما فيه من اللغات فلا معنى للإعادة، وكذا كل ما تقدّم إن شاء الله تعالى.
واختلف العلماء في الرعد؛ ففي الترمذي عن ابن عباس قال: سألتِ اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ قال: «مَلك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله».
فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: «زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر الله» قالوا: صدقت. الحديث بطوله.
وعلى هذا التفسير أكثر العلماء.
فالرعد: اسم الصوت المسموع، وقاله عليّ رضي الله عنه، وهو المعلوم في لغة العرب؛ وقد قال لبِيد في جاهليته:
فَجّعَني الرعدُ والصواعقُ بال ** فارِسِ يومَ الكريهةِ النَّجِدِ

وروي عن ابن عباس أنه قال: الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوّت ذلك الصوت.
واختلفوا في البرق؛ فروي عن عليّ وابن مسعود وابن عباس رضوان الله عليهم: البرق مخراق حديد بيد المَلَك يسوق به السحاب.
قلت: وهو الظاهر من حديث الترمذي.
وعن ابن عباس أيضًا: هو سوط من نور بيد المَلَك يزجر به السحاب.
وعنه أيضًا: البرق مَلَك يتراءى.
وقالت الفلاسفة: الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب.
والبرق ما ينقدح من اصطكاكها.
وهذا مردود لا يصح به نقل؛ والله أعلم.
ويقال: أصل الرعد من الحركة؛ ومنه الرِّعديد للجبان.
وارتعد: اضطرب؛ ومنه الحديث: «فجِيءَ بهما تُرْعَدُ فَرَائصهما» الحديث.
أخرجه أبو داود.
والبرق أصله من البريِق والضوء؛ ومنه البُرَاق: دابّة ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسرِيَ به وركبها الأنبياء عليهم السلام قبله.
ورَعَدت السماء من الرعد، وبَرَقت من البرق.
وَرَعَدت المرأة وبَرَقت: تحسّنت وتزينّت.
ورَعَد الرجل وبَرَق: تهدّد وأوعد؛ قال ابن أحمر:
يا جُلَّ ما بَعُدَتْ عليك بِلادُنا ** وطِلابُنا فابرق بأرضِك وارعد

وأَرعد القوم وأبرقوا: أصابهم رعد وبرق.
وحكى أبو عبيدة وأبو عمرو: أرعدت السماء وأبرقت، وأرعد الرجل وأبرق إذا تهدّد وأوعد؛ وأنكره الأصمعي.
واحتج عليه بقول الكُمَيْت:
أبرِق وأرعِد يا يزي ** دُ فما وعيدُكَ لي بِضائرْ

فقال: ليس الكُمَيت بحجة.

.فائدة: ما يقال عند الرعد والبرق:

روى ابن عباس قال: كنا مع عمر بن الخطاب في سَفْرة بين المدينة والشام ومعنا كعب الأحبار، قال فأصابتنا ريح وأصابنا رعد ومطر شديد وبرد، وفَرِق الناس.
قال فقال لي كعب: إنه من قال حين يسمع الرعد: سبحانَ من يسبِّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته؛ عُوفي مما يكون في ذلك السحاب والبرد والصواعق.
قال: فقلتها أنا وكعب، فلما أصبحنا واجتمع الناس قلت لعمر: يا أمير المؤمنين، كأنا كنا في غير ما كان فيه الناس.
قال: وما ذاك؟ قال: فحدّثته حديث كعب.
قال: سبحان الله! أفلا قلتم لنا فنقول كما قلتم! في رواية فإذا بَرَدة قد أصابت أنف عمر فأثّرَت به.
وستأتي هذه الرواية في سورة الرعد إن شاء الله.
ذكر الروايتين أبو بكر أحمد بن عليّ بن ثابت الخطيب في روايات الصحابة عن التابعين رحمة الله عليهم أجمعين.
وعن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد والصواعق قال: «اللَّهُمّ لا تقتلنا بغضبك ولا تُهْلكنا بعذابك وعافِنا قبل ذلك». اهـ.
قال الفخر:
اعلم أن هذا هو المثل الثاني للمنافقين وكيفية المشابهة من وجوه:
أحدها: أنه إذا حصل السحاب الذي فيه الظلمات والرعد والبرق واجتمع مع ظلمة السحاب ظلمة الليل وظلمة المطر عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم، فإذا أضاء لهم مشوا فيه، وإذا ذهب بقوا في ظلمة عظيمة فوقفوا متحيرين لأن من أصابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذهب عنه تشتد حيرته.
وتعظم الظلمة في عينه، وتكون له مزية على من لم يزل في الظلمة، فشبه المنافقين في حيرتهم وجهلهم بالدين بهؤلاء الذين وصفهم، إذ كانوا لا يرون طريقًا ولا يهتدون، وثانيها: أن المطر وإن كان نافعًا إلا أنه لما وجد في هذه الصورة مع هذه الأحوال الضارة صار النفع به زائلًا، فكذا إظهار الإيمان نافع للمنافق لو وافقه الباطن: فإذا فقد منه الإخلاص وحصل معه النفاق صار ضررًا في الدين.
وثالثها: أن من نزل به هذه الأمور مع الصواعق ظن المخلص منها أن يجعل أصابعه في أذنيه وذلك لا ينجيه مما يريده تعالى به من هلاك وموت، فلما تقرر ذلك في العادات شبه تعالى حال المنافقين في ظنهم أن إظهارهم للمؤمنين ما أظهروه ينفعهم، مع أن الأمر في الحقيقة ليس كذلك بما ذكر.
ورابعها: أن عادة المنافقين كانت هي التأخر عن الجهاد فرارًا من الموت والقتل، فشبه الله حالهم في ذلك بحال من نزلت هذه الأمور به وأراد دفعها يجعل إصبعيه في أذنيه.
وخامسها: أن هؤلاء الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم وإن تخلصوا عن الموت في تلك الساعة فإن الموت والهلاك من ورائهم لا مخلص لهم منه فكذلك حال المنافقين في أن الذي يخوضون فيه لا يخلصهم من عذاب النار.
وسادسها: أن من هذا حاله فقد بلغ النهاية في الحيرة لاجتماع أنواع الظلمات وحصول أنواع المخافة، وحصل في المنافقين نهاية الحيرة في باب الدين ونهاية الخوف في الدنيا لأن المنافق يتصور في كل وقت أنه لو حصل الوقوف على باطنه لقتل، فلا يكاد الوجل والخوف يزول عن قلبه مع النفاق.
وسابعها: المراد من الصيب هو الإيمان والقرآن، والظلمات والرعد والبرق هو الأشياء الشاقة على المنافقين، وهي التكاليف الشاقة من الصلاة والصوم وترك الرياسات والجهاد مع الآباء والأمهات، وترك الأديان القديمة، والانقياد لمحمد صلى الله عليه وسلم مع شدة استنكافهم عن الانقياد له فكما أن الإنسان يبالغ في الاحتراز عن المطر الصيب الذي هو أشد الأشياء نفعًا بسبب هذه الأمور المقارنة، فكذا المنافقون يحترزون عن الإيمان والقرآن بسبب هذه الأمور المقارنة، والمراد من قوله: {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ} أنه متى حصل لهم شيء من المنافع، وهي عصمة أموالهم ودمائهم وحصول الغنائم لهم فإنهم يرغبون في الدين: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} أي متى لم يجدوا شيئًا من تلك المنافع فحينئذٍ يكرهون الإيمان ولا يرغبون فيه، فهذه الوجوه ظاهرة في التشبيه. اهـ.